مميزات نظام التوريث الإسلامي
من كتاب
أحكام الميراث في الشريعة الإسلامية
تأليف الدكتور جمعة محمد محمد براج
وقف الإسلام موقف وسطا بين الاشتراكات الشيوعية، وبين الرأسمالية والمذاهب التي تقول بحرية التملك، فالاشتراكية في أصولها الأولى – من عهد كارل ماركس – تنكر مبدأ الإرث، وتعتبره ظلما يتنافى مع مبادئ العدالة، فلا تعطي أبناء الميت وأقرباءه شيئا مطلقا، والرأسمالية وما شابهها من المذاهب الاقتصادية تترك الحرية كاملة للرجل يتصرف في ماله كما يشاء دون ضوابط، فله أن يحرم أقرباءه كلهم من الميراث، وله أن يوصي بماله إلى غريب من صديق أو خادم، وله أن يوصي بماله إلى كلب أو قط لا يعقل أو إلى البغايا وأندية الميسر، وما شابه ذلك من الوصايا الغريبة.
أما الإسلام فقط أعطى للإنسان الحرية في أن يتصرف في ثلث ماله فقط، فله أن يوصي أو يهب في حدود الثلث، يوصي به لمن يشاء على أن يكون لجهة خير، أو لمن ينتفعون به، ولا يجوز الوصية إلى جهة محرمة، ولا إلى مثل كلب والقطط والخيول، أما الثلثان الآخران فهما لأقربائه، أو من تربطه بهم صلة قوية كالأقرباء أو الموالي، وهو حق طبيعي لهم لا يمتلك المورث التصرف فيه ولا منعهم منه، وبذلك يكون الإسلام قد حفظ حق الورثة في حياة صاحب المال، فبمجرد نزول مرض الموت بالإنسان فليس له أن يتصرف تصرفا يضر بالورثة أو يفوت عليهم حقهم.
عن عامر بن سعد عن أبيه قال : اشتكيت مع النبي - صلى الله عليه وسلم – في حجة الوداع، حتى إذا ادنفت فدخل علي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعودني فقلت : يا رسول الله ما أراني إلا ألم بي، وأنا ذو مال كثير، وإنما يرثني ابنة لي، أفأتصدق بمالي كله؟ قال: " لا " قلت: فنصفه؟ قال " لا" قلت: فالثلث، قال " الثلث والثلث كثير، إنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم فقراء يتكففون الناس بأيديهم، وإنك لا تنفق نفقة إلا آجرك الله فيها حتى ما تجعل في في امرأتك "
واشترط الإسلام في صحة الوصية كذلك أن لا يقصد بها مضارة الورثة، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: " إن الرجال ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار " ثم قرأ أبو هريرة: " من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار، وصية من الله " .... إلى قوله تعالى: " وذلك الفوز العظيم ".
ولذلك فالأولى بصاحب المال القليل أن يوصي بشيء من ماله حفظا لحق الورثة، سيما إذا كان المال لا يسمح بقضاء حاجات الورثة، وخاصة إذا كان الورثة صغارا بحاجة إلى تربية ونفقة.
تولى الخالق بنفسه بيان المستحقين لتركة الميت، واستأثر بتوزيع التركة على هؤلاء المستحقين، ولم يترك شيئا من هذا الأمر لصاحب المال، فليس لصاحب المال حق في تعيين الوارثين، ولا تحديد أنصبتهم، بل كل ذلك لله تعالى لعلمه بأن الإنسان قد يغلب عليه الهوى، أو يقع تحت تأثير عاطفة جامحة، أو مؤثرات عارضة، فيحيف في حكمه بحرمان بعض الورثة، أو بإيثار بعضهم بزيادة على الآخرين مما تأباه الشريعة الغراء، فالإرث في الشريعة الإسلامية إجبارية بالنسبة إلى الوارث والمورث، على الوارث أن يأخذ حقه، وبعد ذلك هو حر التصرف فيه، بالهبة أو الصدقة أو التنازل عنه لأي شخص، أما المورث فيجب عليه أن يذعن لقسمة المولى العليم الخبير.
وبهذا يمتاز نظام الميراث في الإسلام عن بقية النظم الوضعية، التي تجعل لصاحب المال الحق في تعيين المنتفعين بماله من بعده، وحق تحديد نصيب كل وارث، وهذه النظم لا تخلو دائما من التأثر ببعض المؤثرات التي سبقت الإشارة إليها.
جعل الإسلام الميراث محصورا في دائرة الأسرة لا يتعداها، فلا بد من نسب صحيح أو زوجة قائمة، والولاء يشبه صلة النسب فكان ملحقا به، وهؤلاء هم أكثر الناس صلة بالميت، وأشدهم تعاونا معه، وفي هذا صلاح الأسرة، وإحكام الروابط بين أفرادها وتقوية أواصر المودة فيها، وجعلها متعاونة على تحقيق الخير والسعادة في حياتها، ومن هنا أبطل الإسلام التبني، والمولود من زواج باطل أو فاسد أو ولد الزنا.
وفي دائرة الأسرة يفضل الإسلام في مقدار الأنصبة الأقرباء فالأقرب بالنسبة للميت، ممن يعتبر شخصه امتدادا لشخص الميت كالأولاد والأب، فالإسلام قد جعل الأساس في تقديم بعض الورثة على بعض قوة القرابة، واتصال المنافع بين الوارث والموروث.
يتبع
منقول
نظام الميراث الإسلامي قدر نصيب الوراثين بالفروض – السهام المقدرة – كالثمن والربع والنصف والسدس والثلث والثلثين، ماعدا العصبات حيث أنهم يرثون ما يفضل عن أصحاب الفروض، ولا مثيل لهذا في الشرائع القديمة والحديثة ، بل هو نظام الإسلام الدقيق.
نظام الميراث في الإسلام يحول دون تجمع الثروة في يد واحدة على حساب الآخرين، وهذا بدوره يؤدي إلى تفتيت الثروة وتوزيعها بين أكبر عدد ممكن من الناس المستحقين، وبذلك يقتضي على الرأسمالية الكبيرة القائمة على الاستبداد والتسلط، والتي هي شر ما تبتلي به المجتمعات، وتنزلق بها إلى مدخل المفساد والمذاهب الهدامة.
نظام الميراث الإسلامي عمل على حماية المستضعفين من النساء والأطفال، وأولاهم من الرعاية ما هم أهل له، فجعل للمرأة نصيبا في الإرث، فالأم والبنت والزوجة والأخت وغيرهن لهن نصيب من مال الميت، يحفظ حياتهن وكرامتهن ويحول بينهن وبين ذل الحاجة والانزلاق في مهاوي الرذيلة.
وكذلك جعل للطفل الصغير والحمل في بطن أمه نصيبا مثل الكبير، ولم يجعل للابن الأكبر أي ميزة يمتاز بها عن غيره من أفراد الأسرة، على خلاف ما جرت عليه بعض النظم، من جعل المال كله للابن الأكبر، ولا شك أن النظام الشريعة الإسلامية في ذلك هو أحق وأعدل وأرحم نظرة، من حيث أن الصغار والنساء أولى بالرعاية، وأحوج إلى مال أبيهم من الكبار الذين تربوا في حياة مورثهم، وقد يكونون قد جمعوا من المال ما يكفيهم، أو حصلوا من وسائل الكسب ما يؤمن حياتهم، ويجعلهم في رغد من العيش بعكس الصغار.
جعل الإسلام الزوجية الصحيحة من أسباب الإرث، فالزوجة ترث من زوجها، والزوج يرث من زوجته، وفي ذلك احترام للرابطة الزوجية، وتقوية لأواصرها حتى تؤتي ثمارها، وتظهر المودة والرحمة والتعاطف بين الزوجين.
نظام الميراث الإسلامي جعل الحاجة أساس التفاضل في الميراث، ولهذا جعل نصيب البنت نصف نصيب أخيها الذكر، لأن حاجته إلى المال أكثر من حاجتها إليه، ومطالب الحياة وتبعاتها بالنسبة إليه أكثر منها بالنسبة للبنت، فهي لا تكلف في الحياة ببعض ما يكلف به أخوها، فنفقتها على أبيها ما دامت في بيته، فإذا انتقلت إلى بيت زوجها فنفقتها عليه، وهكذا نراها مكفولة النفقة في جميع مراحل حياتها، فما تأخذه من مال المهر أو الميراث يكون مالا محفوظا لا يتعرض للنقصان إلا في بعض الحالات الاضطرارية، ومن هذا المنطلق جعل الإسلام نصيب ابن الميت أكثر من نصيب أبيه، فالجد أصبح في نهاية عمره، فليس له من مطالب الحياة كما للابن، ولا حاجة له بالمال إلا بالمقدار الذي يحفظ عليه شيخوخته، ويؤمنه من ذل الحاجة، حين ضعفه وعدم قدرته على الكسب، بخلاف الأبناء الذين تستقبلهم الحياة بمتطلباتها المتعددة، وترهقهم بتكاليفها الباهظة.
فهذه المميزات جعلت نظام الميراث الإسلامي هو النظام الأمثل بين الأنظمة المختلفة، من جميع النواحي الاجتماعية والاقتصادية، يحفظ حق كل طرف دون إفراط، وكيف لا يكون كذلك وهو شريعة رب العالمين الخاتمة، لأهل الأرض أجمعين " أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ".
وبعد ذلك فهذا البحث فيه جهدي وأفرغت فيه وسعي ، فإن كنت قد وفقت فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، وإن كنت الأخرى فحسبي أنني لم أدخر وسعا ولم آل جهدا ، ونسال الله العون والتوفيق .... ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب . اللهم انفعنا بما علمتنا وانفع بنا المسلمين . ربنا أدخلنا مدخل صدق وأخرجنا مخرج صدق واجعل لنا من لدنك سلطانا نصيرا . وأخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين .
منقول